بسم الله الرحمن الرحيم
وأهل القرى يابني وسفساف من في المدن من سكانها كلهم تجارهم وصناعهم وغيرهم، وكذلك من اختلط بالأسواق والقرى من العرب وجاورهم، فهؤلاء كلهم ليسوا بذوي حرية ولا ذمام، ولا يتخلقون بخلق من أخلاق الكرام، ولا يوفون بموعد وعدوه، ولا يوجدون حق الجوار لمن جاوره، وإن استعانهم جارهم على نائبة لم يعينوه، وإن وعدوه وعداً أخلفوه، وإن قالوا له قولاً لم يصدقوه، وكلما كان عليهم فيه أدنى كلفة وأقلها لم يكتلفوه، وليس للجار عندهم غير الخداع له والمنافقة، فإنهم إذا لقوه تملقوا وإن استرفقهم بسلف أو رفق لم يرفقوه، وكذلك كل من اختلط بالقرى من العرب فهو في اللؤم ودقة النظر وسوء الأدب كأهل القرى والأسواق يتخلقون بأخلاقهم، ويفسدون بفسادهم.
فالبعد يابني عن أهل القرى والمدن لكم ولمن معكم خير من قربهم وأسلم لكم في دينكم وفيما بين ربكم وبينكم، وليست العزلة عن المواضع التي تجمع أخلاط الناس ويحيط بكم ما فيها من شرور الأشرار وما فيهم من الدنس والأنجاس كالبوادي التي تتسع بأهلها وتضم من فيها من سكانها، كما تجمع القرى وتضم وتخلط بين من فيها من رذالة أشرارها وسفلها، لأن كل ساكن في البادية فهو وحده يمكنه أن يكون في عزلة وناحية.
وسكان القرى متضامون في السكك والدور، مجتمعون يرى بعضهم ما في بعض من الفساد والمنكر والشرور، يأنس بعضهم ببعض فيما يفعلون من منكرات الفجور، ثم لا يجد من يسكن بينهم بداً من مضامتهم ورؤيتهم، ومعاينة فواحشهم وفسقهم، وما يبتلى به من سوء جوارهم، ونذالة أخلاقهم، ولؤم كبارهم وصغارهم، واستحسانهم بينهم لِلؤم الأخلاق، وقلة إنكارهم للدناءة والخنا، وما فيهم من فواحش الريب والبلاء، أعظم وأكبر من أن يؤتى له على صفة أو يحصى، يتكلم سفاسفهم وأهل أسواقهم، وأكبر كبارهم وصغارهم، بأفحش الفحش وأعور الكلام علانية جهاراً، فلا ترى أحداً منهم أنه يجب عليه أن يكون منه لما سمع من ذلك إنكاراً، فنساؤهم وأكثرهم في الأسواق متبرجات، وأكثر اللواتي لا يخرجن متطلعات من الكوى والأجنحة غير مستحيات.
فَلِمَ تروا يابني هذا ومثله ظهر في القرى وعم حتى لا ينكره منكر من أهل القرى، ولا يحتشم منهم محتشم، فأنا أخبركم يابني لِمَ كان هذا في القرى والمدن بلا غلط ولا توهِم، وذلك إنما هو لأن القرى والمدن تجمع وتضم من رذالات الأجناس، وحشو سفساف الناس، وسقاط العجم وشرارهم، فيجتمعون ويختلطون غرباء عن أوطانهم وبلدانهم، فمنهم من هو مملوك مرقوق، ومنهم من هو غير مملوك وهو لئيم الأصل، قليل الحياء للمجون والدناءة والجفاء والمروق والعتاوة والفسوق، فقد اختلطوا وماج بعضهم في بعض، حلوا بالشرور لقلة الحياء، ولؤم الأمهات والآباء، ولأن بعضهم لا يعرف بعضاً، جميع القرى في الأرض ومن اختلط بهم، فمن كان له أصل أو نسب من قريش والعرب، أو من له حرية نفس من العجم، أو من كرام أجناس الأمم، فلغلبة من ذكرنا من القرى من سقاط الناس ورذالة الأمم والأجناس قد غمر هؤلاء في كثرتهم، وقلوا وصار العدد والمال واليسر في الرذالة والسفل، وافتقد كل من له حرية، وقل عددهم، وصار من له أصل ودين بين هؤلاء الذين ذكرنا قد خمل وذل، لأن الغلبة في الدنيا الدنية وهذه الدار الأولى من الدنيا الدنية إنما هي للحشو الأكثر في العدد، ولا سيما إذا لم يكن لسلاطين الحق والعدل على السفساف والرعاع بحكم الله يد.
فالناس اليوم يابني في مدن القرى مختلطون، يموجون ويختلط بعضهم في بعض كما تموج أمواج البحر بالماء، ليس فيهم ولا منهم محق يقوى عليهم، وأحكام الله وآدابه في كتابه لا تنفذ فيهم، فقد اخلتط علية ([21]) من في المدن والقرى بسفلهم، وطال اختلاطهم وثواهم بينهم حتى جروا على سيرتهم، وصاروا لا يستقبحون قبيحاً، ولا يرون دناءة ولا فاضحاً فضوحاً، والإلف للغلبة السفلة، وصارت السفل لكثرتهم وغلبتهم قد رهقتهم الذلة، واحتاج هؤلاء الذين لهم أصول وحرية إلى أولئك فكلهم في مذهبه وخلقه هالك.
قد استحسن من في القرى والمدن من بقايا كرام الناس ما يستحسن من غلب على القرى والمدن من سفل الأجناس لغلبة الغوغاء والرذالة وسقاط الأمم والسفلة على القرى وكثرة عددهم فيها، فقد غرق بينهم وخزي وذل وقل كل من آوى إليها من أهل الدين والحسب، وكاد أن يبطل بل قد بطل كل ذي دين ونسب.
فالمهرب المهرب يابني من القرى والمدن، الهرب الهرب فلو لم تهربوا منها وتباعدوا إلا لذل الأحرار وفقرهم بها، وأن السفساف من لا خطر له ولا دين قد غلبوا وكثروا وحازوا جميع معايشها، فذكرهم بالقرى والمدن الذكر الرفيع العالي، وفيهم اليسر والثروة والعدد والأموال، وتوارثوا مع ذلك الحيرة في الدين والضلال، ممن كان قبلهم في القرون الخوال، من أهل الشرف في أخلاقهم، والعلو في ولادتهم وأنسابهم، لأمور عرضت من حسد وضغائن حالت بينهم وبين طاعة ربهم لا يمكننا شرحها كلها، ومن فَهِمَ فروعها فتدبَّرها فهم أصولها، فقد اشتبه أهل الأرض في معصية الله ورسوله، ومخالفتهم لأنبيائه صلوات الله عليهم وتنزيله، فكلهم أو أكثرهم ضال عن أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في مذهبه واعتقاده وقوله وفعله.