آداب التهيؤ النفسي
إن للعبادات ملكوتا وباطنا.. فليس الحج هذه الحركات التي يؤديها الحجاج فحسب!.. وباطن الصلاة، ليس هذه الحركات المعهودة فحسب!.. وروايات النبي -صلى الله عليه وعلى آله- وأهل البيت (ع)، تؤشر إشارة من بعيد بل من قريب إلى هذه الحقيقة.. ولعل هذا الحديث، مما يلقي الضوء على هذا المجال، قال أمير المؤمنين (ع): ( لو يعلم المصلي ما يغشاه من جلال الله، ما سره ان يرفع رأسه من السجود ).. وقال الصادق (ع): ( إذا قام المصلي إلى الصلاة، نزلت عليه الرحمة من أعنان السماء إلى الأرض، وحفّت به الملائكة، وناداه ملك: لو يعلم هذا المصلي، ما في الصلاة ما انفتل )!.. أي أنه ما ترك الصلاة لو التفت إلى ملكوت الصلاة، والمعاني التي تحملها الصلاة بين يدي الله عز وجل.
إن على الإنسان أن يعيش حالة من الترقب للصلاة ، فالإنسان المؤمن الذي يريد أن يصل إلى ملكوت الصلاة، لا بد وأن يعيش هذا الهاجس قبل دخول الوقت، مترقبا للصلاة بكل شوق.. إن الأمور الكبرى في الحياة، والمعاني السامية تبدأ بالتلقين، وتتحول إلى واقع، وعلى الإنسان أن لا يملّ من التلقين المستمر.. فالسير إلى الله -عز وجل- حركة معاكسة لطبيعة الإنسان لجهتين: لوجود قوة دافعة.. ولوجود قوة مانعة.
علينا ان نعلم أن هناك قوة دافعة، تدفع الإنسان الذي يريد أن يصل إلى الله -عز وجل- إلى اتجاه معاكس لما يريده ، أي تدفعه إلى: الميل إلى شهوات الدنيا، والتثاقل إلى الأرض، وتقديم العاجل على الآجل، وتقديم اللذة على الفكرة، وتقديم المصلحة الآنية على المصلحة المستقبلية.. أضف إلى ذلك أن العبادة هي تعامل وتفاعل مع عالم الغيب، والغيب إذا بقي غيبا محضا، فإنه لم يعد داعيا لحركة الإنسان.. فالذي يؤمن بالله وبالمبدأ والمعاد؛ ولكن لا يعيش حقيقة شهودية في قلبه، فإن من الطبيعي أن لا يسير إلى الله -عز وجل- سيراً حثيثاً؛ ومن الطبيعي أن يحاول معاكسة التيار.. فالسباح الذي يريد أن يسبح خلاف التيار، يحتاج فى أول الأمر إلى تكلف ومعاناة ومجاهدة، إلى أن يتعود ركوب الموجة وتجاوز العقبات.
وعليه ، فإن مسألة الدخول في بحر الصلاة، تحتاج إلى تهيؤ نفسي مسبق .. فقبل دخول الوقت، يا حبذا لو يجعل الإنسان حائلا بينه وبين الصلاة؛ أي منطقة برزخية حائلة بين العالمين: فلا هي صلاة، ولا هي تعامل مع البشر.. ولهذا يلاحظ بأن القرآن الكريم، يؤكد على هذه الحقيقة: ألا وهو التسبيح قبل طلوع الشمس، وقبل الغروب.. فعلى الإنسان أن يجلس في المصلى قبل أن تغرب الشمس، وفي مكان يهيئ نفسه للدخول بين يدي الله -عز وجل- بذكر بعض التسبيحات، والتهليلات، وباقي المستحبات بحيث يخرج تدريجياً من جو التفاعل مع عناصر هذه الدنيا.
ومن هنا فإن صلاة المؤمن تبدأ قبل الوقت بفترة طويلة ، فالصلحاء والأولياء يعدون أنفسهم للقاء المولى قبل ساعة او ما يقرب منه .. بينما عامة الناس يفاجؤهم الوقت مفاجأة ولعلهم يتمنون فى قرارة أنفسهم أن لا يدخل عليهم الوقت؛ لكيلا يفسد عليهم لهوهم!.. وإذا كان ولا بد أن يصلي في المنزل -لا في بيت من بيوت الله عز وجل- فعليه أن يهيأ مكانا فارغا للعبادة فى منزله إثباتا لترقبه وميله إلى لقاء مولاه.
إن اتخاذ مكان ثابت فى المنزل للصلاة بين يدى الله تعالى، لمن دواعي التوجه، والتركيز، والإقبال على رب العالمين!.. فمن المستحب أن يجعل الإنسان في بيته، محلاً خاصاً للصلاة بين يدي الله عز وجل، إذ كلما جاء إلى المصلى، تذكر ساعات إقباله، إذ لعله بالأمس، أو قبل أيام كان خاشعاً في هذا المكان، ولعل دموعه كانت جارية على خديه.. ومن المعلوم أن هذا الجو مفعم بأجواء الروح والريحان؛ فكلما دخل هذا المكان، أحس بتلك الأجواء، ولهذا نقرأ في القرآن الكريم: { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً }.. فمن هذه الآية يبدو أن مريم، اتخذت محراباً ومكاناً ثابتاً، للعبادة بين يدي الله سبحانه وتعالى.. فتبين بما ذكرنا أن هذه الفترة الحائلة بين العمل اليومي وبين الصلاة مسألة مهمة.
وإن من صور التهيؤ المقترحة: أن يسجد الإنسان بين يدي الله عز وجل، قبل دخول الوقت في سجود عبادي تأملي.. فإننا -مع الأسف- نتخذ السجود وسيلة للعبادة وللذكر فحسب، وقد يتحول السجود إلى حركة بدنية محضة، لإظهار التذلل بين يدي الله عز وجل؛ ولكن حقيقة السجود، حقيقة جامعة مستوعبة.. فما المانع أن يعيش الإنسان أجواء مختلفة: من التذلل، والمناجاة، والتأمل فيما سيقبل عليه من اللقاء بين يدي الله عز وجل؟!..
إن من موجبات التوفيق والتهيؤ للصلاة الخاشعة، مراقبة السلوك بين الفريضتين.. أي أن من موجبات التوفيق للصلاة، هي مراقبة السلوك بين الحدين.. فمن المعلوم ان الذنب السابق للصلاة؛ يؤثر على توجه الإنسان، فعندما يأتي إلى الصلاة، يأتي وهو يعيش جوا من أجواء البعد عن الله عز وجل.. وهناك تعبير جميل في كتب الأخلاق مفاده : ان من يلطخ نفسه بالعسل، ثم يقترب من بيت الزنابير، فإن من الطبيعي أن تهجم عليه الزنابير، لتلدغه في كل بقعة من بقاع جسده؛ لأن العسل الذى لطخ به بدنه يغري مثل هذه الزنابير.
ان هذا المثال مقدمة للقول: بأن الشياطين تستهوي هذا الإنسان العاصي المنهمك في لذاته ، وفي معاصيه وغفلاته.. وعليه، فإنه عندما يقف للصلاة بين يدي الله عز وجل، تهجم عليه الشياطين والأوهام والخواطر الحقة منها والباطلة.. بحيث ينتهي من الصلاة، وهو لا يفقه كلمة من كلمات صلاته، وإلا فما هي دواعي الشك في الصلاة؟..
إن الشكوك الصلاتية لها حلول فقهية واضحة، حيث يبنى على الاكثر مثلا ويأتى بصلاة الاحتياط..
ولكن أصل عروض الشك حالة سلبية عند الخواص!.. فليس من المقبول أن يصاب المؤمن المتوجه في صلاته، بحالات الشك والذهول، بحيث يصل الأمر إلى أن يشك بين الركعة الثانية والركعة الرابعة مثلا!.. فالركعة الثانية فيها قنوت ومناجاة مع رب العالمين، فيقال في الركعة الثانية: من الطبيعى أن الإنسان يأخذ عزه ودلاله في الحديث مع الله عز وجل.. بينما الركعة الرابعة: فيها رائحة الوداع، بما تستلزمه من الهم والغم؛ إذ إن الانسان بعد لحظات سينتهي من لقاء الله عز وجل.. فعالم القنوت عالم يغاير تماماً عالم التشهد والتسليم، فكيف يخلط المؤمن بين الركعة الثانية، وبين الركعة الرابعة؟!.. بل حتى الركعة الثالثة؟!..
وعليه فإن الشك الكثير في الصلاة، والسهو الكثير فيها، علامة على نوع من أنواع الإدبار فيها، وعدم التوجه الكامل للمضامين الصلاتية، وعدم الانغماس فى بحرها.
والحقيقة التى لا يمكن إنكارها أن الإنسان في حياته يحتاج إلى من يبث إليه همومه، إذ إن من الطبيعى أن نقول: أن الذي لا أنيس له، ولا صديق له، ولا متنفس له، ولا مفزع له في الحياة ، قد يعيش فى بعض الحالات: حالة الكبت، والتبرم، ثم الانفجار، وبعد ذلك الانهيار الكامل.. فإذا كان الإنسان العادي يتخذ بين فترة وأخرى من هو سبيل وذريعة لتفريغ الهموم، فلماذا لا يتخذ من الصلاة مثل هذه المحطة، لتفريغ همومه وذلك مع القدير على كشف كل كربة.
وقد ورد في روايات أهل البيت (عليهم السلام)، أن أئمة أهل البيت والنبي (ص) وذريته الطاهرين، كانوا يفزعون إلى الصلاة كلما أهمهم أمر.. والمؤمن يجب أن يكون كذلك، ليس في المسجد فحسب!.. وإنما في الحالات المختلفة كجوف الليل، ووضح النهار، وفى السوق ، وفي المنزل، فعندما يكون في قمة الغضب واليأس والنظرة السوداوية في الحياة، يذهب ويتخذ زاوية من المنزل، ليتكلم مع رب العالمين تكلم المستغيث اللهفان!.
نعم، إذا جعل الإنسان الصلاة ذريعة للحديث مع الله عز وجل؛ تحولت الصلاة إلى أحلى محطة من محطات الأنس.. وتحولت الصلاة في حياة البعض إلى محطة للتلذذ والارتياح، تلك المحطة التي لا تقارن بمحطات التلذذ المادي بالمتاع الزائل، الذي تفنى لذته ويبقى وزره!..
إن الصلاة عبارة عن تركيبة متكاملة، فيها عناصر عديدة ومتنوعة، ولو رأى الله -عز وجل- مركبا أجمع من الصلاة؛ لكلفنا بذلك المركب.. فالصلاة فيها تحميد وتمجيد من خلال الفاتحة والسورة، ومن خلال مختلف الفقرات.. ففي الصلاة يمجد الإنسان الله ويحمده، وكذلك من خلال الإقامة والأذان.. وفي الصلاة تلاوة لكتاب الله عز وجل، حيث أن هناك سورة إلزامية وهي سورة الحمد، وسورة إختيارية من مجموع القرآن الكريم، طبعا ماعدا سور السجدة.
وكذلك فإن في الصلاة محطة للدعاء، وهو القنوت؛ و في الصلاة ايضا استكانة وخضوع لله عز وجل وشكر للنبي
إن على المؤمن أن يعلم، بأن الارتباط بالله -عز وجل- لا بد له من مراحل متدرجة.. فهذه الأيام عندما يريد الإنسان أن يزور أميرا، أو ملكا -وهي شخصية من شخصيات هذه الدنيا الفانية- فإن اللقاء به لا يكون أمرا فجائيا.. بل هناك أروقة ومكاتب مختلفة، يتدرج من خلالها للقاء بمن يسمى بالأمير في هذه الدنيا.. فكيف بلقاء ملك الملوك؟!.. فمن يأتي إلى مصلاه وهو في أدنى درجات التهيؤ النفسي للصلاة؛ من الطبيعي أن لا يدخل فى جو الصلاة، كما يحب الله سبحانه وتعالى ..
فالملاحظ أن الأئمة -عليهم السلام- وعلى رأسهم النبي المصطفى -صلى الله عليه وآله- تبدأ صلاتهم من الوضوء ، لا من الأذان، ولا من الإقامة، ولا من التكبيرات الإفتتاحية، ولا من تكبيرة الإحرام ، بل تبدأ الصلاة لديهم من الوضوء كاول مرحلة من مراحل الورود على المليك الاعلى.
فانهم عندما كانوا ينظرون إلى الماء، كانوا يبدؤون عملهم بدعاء الوضوء: (الحمد لله الذي جعل الماء طهورا، ولم يجعله نجسا).. إن أدعية الوضوء من الأدعية التى تهيئ الإنسان لجو الصلاة.. فأدعية الوضوء من مصاديق المناجاة المعبرة، ولو قرأها الإنسان أثناء الوضوء بتوجه، لاختلط ماء وضوئه بدموع عينيه.. فعندما يغسل وجهه يقول: (اللهم!.. بيض وجهي يوم تسود فيه الوجوه)،
وهو يتوضأ، وإذا به ينتقل إلى عرصات يوم القيامة، حيث الوجوه السوداء التي سودتها نيران غضب الله عز وجل.. ويغسل يديه فيقول: (اللهم!.. أعطني كتابي في يميني، والخلد في الجنان بيساري، وحاسبني حسابا يسيرا).. ثم يغسل يده اليسرى ويقول: (اللهم!.. لا تعطني كتابي بشمالي، ولا تجعلها مغلولة إلى عنقي، وأعوذ بك من مقطعات النيران)؛
فيتذكر أهوال القيامة.. ثم يغسل رأسه ويقول: (اللهم!.. غشٌني برحمتك وعفوك وبركاتك).. ثم يمسح قدميه، فينتقل من مسح القدم إلى موضع الصراط، فيقول: (اللهم!.. لا تزل قدمي يوم تزل فيه الأقدام، واجعل سعي فيما يرضييك عني يا ذا الجلال و الإكرام)!..
إن الإسلام أراد من الإنسان أن يدخل الصلاة من بوابة الوضوء، حيث أن عملية الوضوء تذكير بضرورة القيام بالطهارة الباطنية.. فالصلاة مثلها كمثل الحج: اذ ان الحج كما نعلم عملية رمزية، فكل حركة في الحج ترمز إلى معنى ومفهوم من المفاهيم، وكذلك الصلاة.. وكأن الله -عز وجل- يريد أن يقول: كما أنك تطهر ظاهرك وتغسله بالماء القراح الطاهر وغير المغصوب؛ فإن عليك أن تطهر الباطن أيضا..
إن جوهر الصلاة عملية قلبية وهى الملازمة للعروج والقربانية وغيرها من الاثار المترتبة على الصلاة الصحيحة ، ومع ذلك جعلت طهارة البدن والثياب شرطا في صحة الصلاة.. وحينئذ نقول : ألا تعتبر الطهارة الباطنية -بعد ذلك- من الشروط أيضا.. ألا يدعونا الأمر بالطهارة الظاهرية إلى تطهير القلب قبل لقاء الله عز وجل؟!..
إن الإنسان الذي يتدنس بين الصلاة والصلاة، عليه أن لا ييأس، فكما أنه يزيل الدنس الظاهري بالتطهير والوضوء؛ فإنه يمكنه أيضا أن يزيل الدنس العارض على روحه بالتوبة إلى الله سبحانه وتعالى.. ولهذا يلاحظ من خلال أدعية الوضوء، أن هناك دعوة لطهارة الباطن ، فالذي يتوضأ بهذه النية، ويلتزم بأدعية الوضوء بهذه النية؛ يجمع بين الطهورين: طهارة البدن، وطهارة الباطن.. وكما هو معلوم فان الوضوء واجب تعبدي، فعلى الإنسان أن ينوي في هذا الواجب قصد القربة.
ومن منا يعيش هذا الجو ليتقرب إلى الله عز وجل؟!.. وكما هو معلوم بأن في التقرب: متقربٌ، ومتقربٌ إليه، ووسيلة للتقرب.. فهل يستحضر الإنسان هذه المعاني قبل أن يتوضأ للصلاة؟..
وقد أكد العلماء كثيرا من خلال الروايات، أن الطهور سنة من السنن التى يلتزم بها المؤمن والمسلم.. قال النبي (ص): يقول الله تعالى: (من أحدث ولم يتوضأ؛ فقد جفاني.. ومن أحدث وتوضأ، ولم يصلِّ ركعتين؛ فقد جفاني.. ومن أحدث وتوضأ، وصلى ركعتين، ودعاني؛ ولم أجبه فيما سألني من أمر دينه ودنياه، فقد جفوته.. ولست برب جاف).
إن الإنسان الذي يحدث ثم يتوضأ، ينتقل إلى عالم آخر؛ حيث أنه ومن خلال الدعاء، ينتقل إلى عالم مليء بالسير والعروج إلى الله سبحانه وتعالى.. ولا بأس أن يلتزم الإنسان بين فترة وأخرى بهذا الحديث؛ أي يتوضأ، ويصلي بوقت لا يتعارف فيه الصلاة؛ ليحقق معنى هذا الحديث المبارك.. ومن المعلوم ان الذي يواظب على طهارة البدن وعلى الوضوء؛ فإنه بعد فترة سيعيش حالة من الكدر والمحجوبية عن الحق ، وكأنه مجنب عند كل حدث!..
إن للعبادات ملكوتا وباطنا.. فليس الحج هذه الحركات التي يؤديها الحجاج فحسب!.. وباطن الصلاة، ليس هذه الحركات المعهودة فحسب!.. وروايات النبي -صلى الله عليه وعلى آله- وأهل البيت (ع)، تؤشر إشارة من بعيد بل من قريب إلى هذه الحقيقة.. ولعل هذا الحديث، مما يلقي الضوء على هذا المجال، قال أمير المؤمنين (ع): ( لو يعلم المصلي ما يغشاه من جلال الله، ما سره ان يرفع رأسه من السجود ).. وقال الصادق (ع): ( إذا قام المصلي إلى الصلاة، نزلت عليه الرحمة من أعنان السماء إلى الأرض، وحفّت به الملائكة، وناداه ملك: لو يعلم هذا المصلي، ما في الصلاة ما انفتل )!.. أي أنه ما ترك الصلاة لو التفت إلى ملكوت الصلاة، والمعاني التي تحملها الصلاة بين يدي الله عز وجل.
إن على الإنسان أن يعيش حالة من الترقب للصلاة ، فالإنسان المؤمن الذي يريد أن يصل إلى ملكوت الصلاة، لا بد وأن يعيش هذا الهاجس قبل دخول الوقت، مترقبا للصلاة بكل شوق.. إن الأمور الكبرى في الحياة، والمعاني السامية تبدأ بالتلقين، وتتحول إلى واقع، وعلى الإنسان أن لا يملّ من التلقين المستمر.. فالسير إلى الله -عز وجل- حركة معاكسة لطبيعة الإنسان لجهتين: لوجود قوة دافعة.. ولوجود قوة مانعة.
علينا ان نعلم أن هناك قوة دافعة، تدفع الإنسان الذي يريد أن يصل إلى الله -عز وجل- إلى اتجاه معاكس لما يريده ، أي تدفعه إلى: الميل إلى شهوات الدنيا، والتثاقل إلى الأرض، وتقديم العاجل على الآجل، وتقديم اللذة على الفكرة، وتقديم المصلحة الآنية على المصلحة المستقبلية.. أضف إلى ذلك أن العبادة هي تعامل وتفاعل مع عالم الغيب، والغيب إذا بقي غيبا محضا، فإنه لم يعد داعيا لحركة الإنسان.. فالذي يؤمن بالله وبالمبدأ والمعاد؛ ولكن لا يعيش حقيقة شهودية في قلبه، فإن من الطبيعي أن لا يسير إلى الله -عز وجل- سيراً حثيثاً؛ ومن الطبيعي أن يحاول معاكسة التيار.. فالسباح الذي يريد أن يسبح خلاف التيار، يحتاج فى أول الأمر إلى تكلف ومعاناة ومجاهدة، إلى أن يتعود ركوب الموجة وتجاوز العقبات.
وعليه ، فإن مسألة الدخول في بحر الصلاة، تحتاج إلى تهيؤ نفسي مسبق .. فقبل دخول الوقت، يا حبذا لو يجعل الإنسان حائلا بينه وبين الصلاة؛ أي منطقة برزخية حائلة بين العالمين: فلا هي صلاة، ولا هي تعامل مع البشر.. ولهذا يلاحظ بأن القرآن الكريم، يؤكد على هذه الحقيقة: ألا وهو التسبيح قبل طلوع الشمس، وقبل الغروب.. فعلى الإنسان أن يجلس في المصلى قبل أن تغرب الشمس، وفي مكان يهيئ نفسه للدخول بين يدي الله -عز وجل- بذكر بعض التسبيحات، والتهليلات، وباقي المستحبات بحيث يخرج تدريجياً من جو التفاعل مع عناصر هذه الدنيا.
ومن هنا فإن صلاة المؤمن تبدأ قبل الوقت بفترة طويلة ، فالصلحاء والأولياء يعدون أنفسهم للقاء المولى قبل ساعة او ما يقرب منه .. بينما عامة الناس يفاجؤهم الوقت مفاجأة ولعلهم يتمنون فى قرارة أنفسهم أن لا يدخل عليهم الوقت؛ لكيلا يفسد عليهم لهوهم!.. وإذا كان ولا بد أن يصلي في المنزل -لا في بيت من بيوت الله عز وجل- فعليه أن يهيأ مكانا فارغا للعبادة فى منزله إثباتا لترقبه وميله إلى لقاء مولاه.
إن اتخاذ مكان ثابت فى المنزل للصلاة بين يدى الله تعالى، لمن دواعي التوجه، والتركيز، والإقبال على رب العالمين!.. فمن المستحب أن يجعل الإنسان في بيته، محلاً خاصاً للصلاة بين يدي الله عز وجل، إذ كلما جاء إلى المصلى، تذكر ساعات إقباله، إذ لعله بالأمس، أو قبل أيام كان خاشعاً في هذا المكان، ولعل دموعه كانت جارية على خديه.. ومن المعلوم أن هذا الجو مفعم بأجواء الروح والريحان؛ فكلما دخل هذا المكان، أحس بتلك الأجواء، ولهذا نقرأ في القرآن الكريم: { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً }.. فمن هذه الآية يبدو أن مريم، اتخذت محراباً ومكاناً ثابتاً، للعبادة بين يدي الله سبحانه وتعالى.. فتبين بما ذكرنا أن هذه الفترة الحائلة بين العمل اليومي وبين الصلاة مسألة مهمة.
وإن من صور التهيؤ المقترحة: أن يسجد الإنسان بين يدي الله عز وجل، قبل دخول الوقت في سجود عبادي تأملي.. فإننا -مع الأسف- نتخذ السجود وسيلة للعبادة وللذكر فحسب، وقد يتحول السجود إلى حركة بدنية محضة، لإظهار التذلل بين يدي الله عز وجل؛ ولكن حقيقة السجود، حقيقة جامعة مستوعبة.. فما المانع أن يعيش الإنسان أجواء مختلفة: من التذلل، والمناجاة، والتأمل فيما سيقبل عليه من اللقاء بين يدي الله عز وجل؟!..
إن من موجبات التوفيق والتهيؤ للصلاة الخاشعة، مراقبة السلوك بين الفريضتين.. أي أن من موجبات التوفيق للصلاة، هي مراقبة السلوك بين الحدين.. فمن المعلوم ان الذنب السابق للصلاة؛ يؤثر على توجه الإنسان، فعندما يأتي إلى الصلاة، يأتي وهو يعيش جوا من أجواء البعد عن الله عز وجل.. وهناك تعبير جميل في كتب الأخلاق مفاده : ان من يلطخ نفسه بالعسل، ثم يقترب من بيت الزنابير، فإن من الطبيعي أن تهجم عليه الزنابير، لتلدغه في كل بقعة من بقاع جسده؛ لأن العسل الذى لطخ به بدنه يغري مثل هذه الزنابير.
ان هذا المثال مقدمة للقول: بأن الشياطين تستهوي هذا الإنسان العاصي المنهمك في لذاته ، وفي معاصيه وغفلاته.. وعليه، فإنه عندما يقف للصلاة بين يدي الله عز وجل، تهجم عليه الشياطين والأوهام والخواطر الحقة منها والباطلة.. بحيث ينتهي من الصلاة، وهو لا يفقه كلمة من كلمات صلاته، وإلا فما هي دواعي الشك في الصلاة؟..
إن الشكوك الصلاتية لها حلول فقهية واضحة، حيث يبنى على الاكثر مثلا ويأتى بصلاة الاحتياط..
ولكن أصل عروض الشك حالة سلبية عند الخواص!.. فليس من المقبول أن يصاب المؤمن المتوجه في صلاته، بحالات الشك والذهول، بحيث يصل الأمر إلى أن يشك بين الركعة الثانية والركعة الرابعة مثلا!.. فالركعة الثانية فيها قنوت ومناجاة مع رب العالمين، فيقال في الركعة الثانية: من الطبيعى أن الإنسان يأخذ عزه ودلاله في الحديث مع الله عز وجل.. بينما الركعة الرابعة: فيها رائحة الوداع، بما تستلزمه من الهم والغم؛ إذ إن الانسان بعد لحظات سينتهي من لقاء الله عز وجل.. فعالم القنوت عالم يغاير تماماً عالم التشهد والتسليم، فكيف يخلط المؤمن بين الركعة الثانية، وبين الركعة الرابعة؟!.. بل حتى الركعة الثالثة؟!..
وعليه فإن الشك الكثير في الصلاة، والسهو الكثير فيها، علامة على نوع من أنواع الإدبار فيها، وعدم التوجه الكامل للمضامين الصلاتية، وعدم الانغماس فى بحرها.
والحقيقة التى لا يمكن إنكارها أن الإنسان في حياته يحتاج إلى من يبث إليه همومه، إذ إن من الطبيعى أن نقول: أن الذي لا أنيس له، ولا صديق له، ولا متنفس له، ولا مفزع له في الحياة ، قد يعيش فى بعض الحالات: حالة الكبت، والتبرم، ثم الانفجار، وبعد ذلك الانهيار الكامل.. فإذا كان الإنسان العادي يتخذ بين فترة وأخرى من هو سبيل وذريعة لتفريغ الهموم، فلماذا لا يتخذ من الصلاة مثل هذه المحطة، لتفريغ همومه وذلك مع القدير على كشف كل كربة.
وقد ورد في روايات أهل البيت (عليهم السلام)، أن أئمة أهل البيت والنبي (ص) وذريته الطاهرين، كانوا يفزعون إلى الصلاة كلما أهمهم أمر.. والمؤمن يجب أن يكون كذلك، ليس في المسجد فحسب!.. وإنما في الحالات المختلفة كجوف الليل، ووضح النهار، وفى السوق ، وفي المنزل، فعندما يكون في قمة الغضب واليأس والنظرة السوداوية في الحياة، يذهب ويتخذ زاوية من المنزل، ليتكلم مع رب العالمين تكلم المستغيث اللهفان!.
نعم، إذا جعل الإنسان الصلاة ذريعة للحديث مع الله عز وجل؛ تحولت الصلاة إلى أحلى محطة من محطات الأنس.. وتحولت الصلاة في حياة البعض إلى محطة للتلذذ والارتياح، تلك المحطة التي لا تقارن بمحطات التلذذ المادي بالمتاع الزائل، الذي تفنى لذته ويبقى وزره!..
إن الصلاة عبارة عن تركيبة متكاملة، فيها عناصر عديدة ومتنوعة، ولو رأى الله -عز وجل- مركبا أجمع من الصلاة؛ لكلفنا بذلك المركب.. فالصلاة فيها تحميد وتمجيد من خلال الفاتحة والسورة، ومن خلال مختلف الفقرات.. ففي الصلاة يمجد الإنسان الله ويحمده، وكذلك من خلال الإقامة والأذان.. وفي الصلاة تلاوة لكتاب الله عز وجل، حيث أن هناك سورة إلزامية وهي سورة الحمد، وسورة إختيارية من مجموع القرآن الكريم، طبعا ماعدا سور السجدة.
وكذلك فإن في الصلاة محطة للدعاء، وهو القنوت؛ و في الصلاة ايضا استكانة وخضوع لله عز وجل وشكر للنبي
إن على المؤمن أن يعلم، بأن الارتباط بالله -عز وجل- لا بد له من مراحل متدرجة.. فهذه الأيام عندما يريد الإنسان أن يزور أميرا، أو ملكا -وهي شخصية من شخصيات هذه الدنيا الفانية- فإن اللقاء به لا يكون أمرا فجائيا.. بل هناك أروقة ومكاتب مختلفة، يتدرج من خلالها للقاء بمن يسمى بالأمير في هذه الدنيا.. فكيف بلقاء ملك الملوك؟!.. فمن يأتي إلى مصلاه وهو في أدنى درجات التهيؤ النفسي للصلاة؛ من الطبيعي أن لا يدخل فى جو الصلاة، كما يحب الله سبحانه وتعالى ..
فالملاحظ أن الأئمة -عليهم السلام- وعلى رأسهم النبي المصطفى -صلى الله عليه وآله- تبدأ صلاتهم من الوضوء ، لا من الأذان، ولا من الإقامة، ولا من التكبيرات الإفتتاحية، ولا من تكبيرة الإحرام ، بل تبدأ الصلاة لديهم من الوضوء كاول مرحلة من مراحل الورود على المليك الاعلى.
فانهم عندما كانوا ينظرون إلى الماء، كانوا يبدؤون عملهم بدعاء الوضوء: (الحمد لله الذي جعل الماء طهورا، ولم يجعله نجسا).. إن أدعية الوضوء من الأدعية التى تهيئ الإنسان لجو الصلاة.. فأدعية الوضوء من مصاديق المناجاة المعبرة، ولو قرأها الإنسان أثناء الوضوء بتوجه، لاختلط ماء وضوئه بدموع عينيه.. فعندما يغسل وجهه يقول: (اللهم!.. بيض وجهي يوم تسود فيه الوجوه)،
وهو يتوضأ، وإذا به ينتقل إلى عرصات يوم القيامة، حيث الوجوه السوداء التي سودتها نيران غضب الله عز وجل.. ويغسل يديه فيقول: (اللهم!.. أعطني كتابي في يميني، والخلد في الجنان بيساري، وحاسبني حسابا يسيرا).. ثم يغسل يده اليسرى ويقول: (اللهم!.. لا تعطني كتابي بشمالي، ولا تجعلها مغلولة إلى عنقي، وأعوذ بك من مقطعات النيران)؛
فيتذكر أهوال القيامة.. ثم يغسل رأسه ويقول: (اللهم!.. غشٌني برحمتك وعفوك وبركاتك).. ثم يمسح قدميه، فينتقل من مسح القدم إلى موضع الصراط، فيقول: (اللهم!.. لا تزل قدمي يوم تزل فيه الأقدام، واجعل سعي فيما يرضييك عني يا ذا الجلال و الإكرام)!..
إن الإسلام أراد من الإنسان أن يدخل الصلاة من بوابة الوضوء، حيث أن عملية الوضوء تذكير بضرورة القيام بالطهارة الباطنية.. فالصلاة مثلها كمثل الحج: اذ ان الحج كما نعلم عملية رمزية، فكل حركة في الحج ترمز إلى معنى ومفهوم من المفاهيم، وكذلك الصلاة.. وكأن الله -عز وجل- يريد أن يقول: كما أنك تطهر ظاهرك وتغسله بالماء القراح الطاهر وغير المغصوب؛ فإن عليك أن تطهر الباطن أيضا..
إن جوهر الصلاة عملية قلبية وهى الملازمة للعروج والقربانية وغيرها من الاثار المترتبة على الصلاة الصحيحة ، ومع ذلك جعلت طهارة البدن والثياب شرطا في صحة الصلاة.. وحينئذ نقول : ألا تعتبر الطهارة الباطنية -بعد ذلك- من الشروط أيضا.. ألا يدعونا الأمر بالطهارة الظاهرية إلى تطهير القلب قبل لقاء الله عز وجل؟!..
إن الإنسان الذي يتدنس بين الصلاة والصلاة، عليه أن لا ييأس، فكما أنه يزيل الدنس الظاهري بالتطهير والوضوء؛ فإنه يمكنه أيضا أن يزيل الدنس العارض على روحه بالتوبة إلى الله سبحانه وتعالى.. ولهذا يلاحظ من خلال أدعية الوضوء، أن هناك دعوة لطهارة الباطن ، فالذي يتوضأ بهذه النية، ويلتزم بأدعية الوضوء بهذه النية؛ يجمع بين الطهورين: طهارة البدن، وطهارة الباطن.. وكما هو معلوم فان الوضوء واجب تعبدي، فعلى الإنسان أن ينوي في هذا الواجب قصد القربة.
ومن منا يعيش هذا الجو ليتقرب إلى الله عز وجل؟!.. وكما هو معلوم بأن في التقرب: متقربٌ، ومتقربٌ إليه، ووسيلة للتقرب.. فهل يستحضر الإنسان هذه المعاني قبل أن يتوضأ للصلاة؟..
وقد أكد العلماء كثيرا من خلال الروايات، أن الطهور سنة من السنن التى يلتزم بها المؤمن والمسلم.. قال النبي (ص): يقول الله تعالى: (من أحدث ولم يتوضأ؛ فقد جفاني.. ومن أحدث وتوضأ، ولم يصلِّ ركعتين؛ فقد جفاني.. ومن أحدث وتوضأ، وصلى ركعتين، ودعاني؛ ولم أجبه فيما سألني من أمر دينه ودنياه، فقد جفوته.. ولست برب جاف).
إن الإنسان الذي يحدث ثم يتوضأ، ينتقل إلى عالم آخر؛ حيث أنه ومن خلال الدعاء، ينتقل إلى عالم مليء بالسير والعروج إلى الله سبحانه وتعالى.. ولا بأس أن يلتزم الإنسان بين فترة وأخرى بهذا الحديث؛ أي يتوضأ، ويصلي بوقت لا يتعارف فيه الصلاة؛ ليحقق معنى هذا الحديث المبارك.. ومن المعلوم ان الذي يواظب على طهارة البدن وعلى الوضوء؛ فإنه بعد فترة سيعيش حالة من الكدر والمحجوبية عن الحق ، وكأنه مجنب عند كل حدث!..